كالعادة تصل متأخراً، لكن لحسن الحظ المسرحية لم تبدأ بعد، تقطع تذكرة ويقودك العامل لمكانك في المسرح، لم يكن العدد كبير لكن لخشبة المسرح هيبة خاصة.
بعد دقائق بدأت المسرحية بمشهد سيريالي، في الخلفية نري اثنين يتراقصان علي أُغنية ذات كلمات مُبهمة، وفجأة يسقط افرداً من فتحة كأنها فُتحت في السماء مع رقصة كرقصة المهد، إيحاءاً بالميلاد ورفضاً للبعث، الكل غير متذكر، من هو، ولا من إين آتى، كأنهم كانوا يعيشون حياة أخرى، إلا واحد ظهر وحيداً قبل سقوطهم كأنه وُجد منذ بداية كل شئ، يقول أنا أعرف من اكون!
يجتمعون حوله في لهفة وفضول كأنهم وجدوا ضالتهم، شئ يضئ لهم الظلام بداخلهم، يخبرهم أن اسمه وحيد وأنه لا يعرف من إين آتي مثلهم، يبدو في عينيه المكر ولا يعطيهم كل المعرفة، يجعلم ضالون ويتخبطون بلا وعي، يتلهفون لمعرفة تزيل بعضاً من ضباب عقولهم، يتراقصون براقصات غريبة علي أغنية كأنها من عالم صوفي أو ترانيم للآلهة، وبعد عدة مشاهد نفهم أنما هي إلا رحلة بني البشر من الميلاد للموت، الكل لا يعرف سبب وجوده ويتمنى أن يعود من حيث آتى لكنها تذكرة ذهاب بلا عودة.
وبالغريزة يعرفون الجوع، ومع قلة الطعام، يظهر الطمع اسوأ ما فيهم، فمنهم من يود أن يأكل لحم أخيه ميتاً، يعطيهم وحيد أسماءاً وينصب حاكماً عليهم، ورغم أن الحاكم نزل من نفس الفتحة إلا إنه يفضل نفسه تفضيلاً، فله أحلى النساء وأشهى الطعام، ومن الرعية من يقدسونه ومنهم من يتمردون ولكلٍ منهم عواقبه لكن التمرد عقابه سريع، أن يعود من حيث آتى، فالعودة للفتحة تعني شيئاً واحداً، الموت!
تجف الأرض وينقص الطعام ويعيش بني البشر سنين عجاف يستغيثون بالحاكم فلا حل عنده إما أن ترضى أو تموت، ورغم كل شئ خُلق الحب لأول مرة بين اثنين بفعل الصدفة، ومن بعيد يوسوس وحيد للحاكم أن هناك من أسعد منه، فيخلق في قلبه حقداً ويجعله يفرق بينهم، تراجيديا تنتهي في لحظة وكأنها لم تكن!
ومن القبح ربما يولد الجمال، كانت قبيحة كما رأها الآخرون وكما أوهمت نفسها، لكنها غنت فأُعجبوا من صوتها وتسألوا كيف يجتمع هذا القبح بذلك الصوت الملائكي، كانت أقرب للشك لكنها أيقنت أنها وُهبت شيئا مختلفاً يجعلها مميزة وهناك من هم أجمل لكنهم من الداخل أقبح منها!
وقالت أحدهن، أدعوه، تحدثوا إليه ربما يستجيب لكم أو يعطيكم إجابة عن معنى لوجودكم عن تفسير لمعانتكم، لكن لا تنسوا أنما هذا في خيالكم لأنه ببساطة لا يوجد! لكنها لم تدرك أن الإجابات أحياناً لن تكون مباشرة، فهو يرسل رسائل وإشارات سيفهمها من يتأمل، سيعرف من يكون وسيدرك أنما خلق لسبب وما عليه سوى البحث عن هدف أو عن غاية تحقق له السعادة الابدية!
والزمن جزء من تكونينا، به تنتهي معاناة ومنه تبدأ السعادة، ومن الحكام من طغى وعلا في الارض علوً كبيراً، لكن لكلٍ جزاءه، فقد طُعن الحاكم من أقرب الناس إليه وصرخت الزوجة والابنة علي فراقه، فمهما كان ظالماً فقد كان الأمان لعائلته، وبدأ عصر جديد، عصر من التشتت والتيه، وتحارب البشر فيما بينهم علي نعيم زائل، وقد وجدوا من أختلاف اللون تميزاً، فذلك الأسود أنما هو عبداً، قد سرق وقد نهب فله عقابه بدون سماع شكواه، لكن الحقيقة ما تفتأ أن تُكتشف، ويعرفون أنهم ظلموا هذا الأسود في سبيل تصديق آخر لمجرد أن لون بشرته أبيض، يخجلون من فعلتهم ويحتقرون أنفسهم، وهنا يجد المظلوم منفساً للدفاع عن نفسه، لكن الوقت قد مضى فكم من مظلوم مات مظلوماً لخوفه من عدم تصديقه!
ومع رقصة أخيرة كرقصة الموت يعود البشر من حيث أتوا ويصرخ وحيد، وحيداً، ليس علي رحليهم ولكن لأن معاناته لن تنتهي مثلهم وسيبقى هنا وحده للأبد!
عن مسرحية قاع
مسرح الليسيه، الاسكندرية، مصر