يتخفى النهر وراء الظلام، ضوضاء المراكب تكسر سكون الليل، تعطي بعض الأنس رغم الإزعاج، انظر إلى الأفق فلا أتبين شيئاً إلا بعض الخيالات والأطياف ثم تختفي تدريجياً، ينسم النيل بعض الهواء، انظر في ساعتي فأجد أنه قد آن موعد الرحيل، استقل تاكسي يأخذني إلى مكان التجمع، أصل في الموعد وأنتظر حتى يتم كل شئ وبعد قليل ينطلق الأتوبيس الكبير لرحلة آخرى حيث مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان.
التكييف كان عالياً، أشعر بالبرد، رغم إننا في أوائل سبتمبر، كأن أجواء الشتاء قد عادت مبكراً، السيارات على الطريق تحترم قديسية الليل تنطلق بسرعة خافتة مهما كان الطريق طويلاً، وفي الداخل تختلط الأحلام بالكوابيس وتتداخل مع أصوات الأغنيات والزغاريد والتصقيفات، والرقص يبدو مهزوزاً بالضحكات، ثم يخفت المشهد بعد أن أصابهم الإعياء، تسمع أصوات النوم والأنفاس، تلك اللحظات تنعم بذلك السكون، فما النوم سوى موتٍ خفيف ثم بعث وقيام بعد ثبات.
تشرق الشمس، تنثر أشعتها على الأرض، تكسر ذلك الظلام وتتضح الرؤية على جانبي الطريق، القاهرة في الجانب الآخر تستعد لأستقبال يوم جديد من الضجيج والزحام، أما في الاعلى تظهر مزراع المانجو على طريق الإسماعلية تزين جوانب الطريق باللون الأخضر، وبالقرب من بورسعيد تظهر البحيرات والصيادين وبائعو السمك تنتظهرهم السيارات كي تحصل على غنيمتهم وتوزعها على مطاعم المدينة، وقبل الدخول لدمياط يظهر اللون الازرق، لون البحر، في الأفق حيث الطيور والسماء، ثم داخل المدينة يتضح كل شئ، ورش الخشب ومصانع الأثاث، البيوت متشابهة إلى حد كبير لها زخارف مبالغ فيها كتب عليها اسم صاحبها، كأن الفكر القديم لازال قائماً لم تغيره الحداثة بعد، أما النيل فيبدو ضيقاً هنا، فهو شريان من شريانين تفرعا ليحتضنا الدلتا أحدهم في دمياط والأخر في رشيد، منظر الأبراج وأمامها النيل يبدو غير مألوفاً، فالنيل في صعيد مصر واسعاً حتى أنك بالكاد ترى الجانب الأخر إلا من بعض الجبال يحوطها الضباب.
نصل رأس البر أخيراً بعد ساعات طويلة من السفر، تظهر العشش ذات القبب المدرجة، كلهم نفس الارتفاع يحوطهم النيل من جانب والبحر من جانب آخر، وبينهم شوراع رقمت فردياً، تبدو المدينة هادئة من الداخل والرطوبة مرتفعة بعض الشئ تعطي إحساساً بالحرارة رغم أننا في مدينة ساحلية.
قبل الغروب الجولة كانت نيلية، نأخذ مركب في النيل، رغم الأصوات العالية والفقرات الفنية الرديئة إلا إن من الأعلى يبدو النيل مستقلاً، يحمل مراكب الصيد الكبيرة في ثبات، ينتظر المراكب الأخرى بعد أياماً في البحر ويودع الأخريات اللائي عزمن الترحال، تنجرف مياهه في هدوء، ثقيلاً كعادته، وشاهداً كل الأحداث مهما مرت السنين، تظهر عزبة البرج من الجانب الآخر ذات الألوان الباهتة ورائحة السمك النفاذة، وعلى الضفاف مصنع السفن والمراكب، يوحي هيكلها بطوفان جديد ونوح ينادي أن يقوم ألا تتعظون!
في الأفق وعند الغروب يظل النيل متمسكاً بالشمس إلى آخر شعاع حتى تلفظ أنفاسها الأخيرة قبل أن يطغي الظلام، تسكن المدينة لحظات أحتراماً لمشهد موت الشمس المقدس ثم تعود الحركة مرة اخرى وكأنها لا تنام، وفي الليل تنتظر صديق جمعكما القدر صدفة لكنه يبدو مألوفاً كأنك تعرفه منذ سنوات، تتسكعان معاً في الشارع الملئ بالألوان ويرشدكم الفنار إلى اللسان حيث تتلاطم الأمواج مع الصخور ونغمات خفيفة تشدو في الخلف، أما أمام البحر الهائج تتجلى الآلام كالطيف كأنها لم تكن، يطغو عليها صوت الثرثرات والضحكات وطعم الشاي بالنعناع، ينسم البحر بالهواء وتتنوع الأحاديث والحكايات، تلك اللحظات السعيدة يعطيها القدر خِلسة من غير معاد ثم تزول ولا يبقيها سوى الذكريات!
في الصباح الجو كان مشمساً، الرطوبة عالية بعض الشئ، أعطت إحساس بالحرارة، لكن الشاطئ كان هادئاً، الأمواج خفيفة وليست عالية، البحر يرفعك لأعلى وتلامس رجلك القاع الناعم، يغمر الجسد الماء وتتفتح المسام روايداً، تتبادل الأبتسامات والأحاديث الجانبية، ومن حولك تسمع الصرخات والضحكات فالبحر مهما كان ممتعماً إلا أنه غدار، أما تحت الشمسيات يبدو البحر في الأفق وهو مندمج مع السماء ومن بعيد تظهر سفينة كبيرة ترسم المشهد كاملاً كأنها لوحة فنية، على الشاطئ يتجول بائعو الفريسكا والعوامات، وتجرف الأمواج الأصداف والقواقع الفارغة إلي الرمال، يلعب بها الأطفال ويزينون بها بيوتهم الرملية.
أخذتنا المعدية إلي الجانب الآخر من النيل، حيث عزبة البرج، ومن الداخل بدا كل شئ يتضح روايداً، البيوت ذات اللون الباهت والشوراع الضيقة ورائحة السمك النفاذة، ترسو المراكب على الميناء بعد رحلة طويلة استمرت أيام، ينتظرها الناس في لهفة وشوق لما أغتمنوه من البحر، عندما يفرغ الصيادين حمولتهم، يبدأ المزاد، ترتفع الأصوات والأرقام ويتجمع التجار، تفرض اللهجة الدمياطي سيطرتها علي المكان، تحاول الوصول لأعلى سعر حتى يتم تعويض تكاليف الرحلة، الأسماك كثيرة ومتنوعة ولها أشكال واسماء غريبة، رحلة من عالم إلي عالم آخر تخوضها الأسماك كل يوم ومن رحمة الله تختنق وتموت إذا خرجت من الماء، فعالم البشر لا يتحمله إلا البشر!
عند الشروق، تنشر الشمس ضياءها روايداً، ويظهر الفنار الأبيض يتقدم خطوات عن الفنار الأحمر، وبينهما تتلاطم الامواج مع الصخور، وكأنهم ينتظرون العجوز التائه بمركبه في البحر ليرشدوه إلى المرج، حيث يلتقي البحران، النيل والبحر المتوسط، بينهما برزخ فلا يبغيان بعضهما، فأي نهر! وأي بحر! إن المرج لمن قدير الله، هو خلاقٌ للعجب العجاب! وكانت الشمس قد خرجت من مخبئها فبدت أشعتها كالآلئ على السطح اللامع، ولفح النسيم المتبقي من هيام الفجر الهائمون في ملكوت الله والجالسون في سكون أمام البحر، فبدو كالخاشعون في محراب المعبد، وقد أكسبهم نقاءاً وتقوى!
ودمياط تبدو كمثلها من مدن مصر لا شئ يميزها إلا من محلات الحلوى ومعارض الأثاث التي تنتشر في كل مكان، في الموصلات والشوراع تسمع اللهجة الدمياطي بوضوح، تحلق بك بعيداً إلي شاطئ البحر حيث الصياديون وهم يتبادلون الأحاديث وعازف على مقهى بسيط يشدو بالنغمات كآنها ترانيم لآلهة البحر كي تنعم عليهم بالخير الوثير.
وفي الصباح تجد نفسك في سيارة في رحلة لمدينة أخرى مع أناس تعرفهم للمرة الأولى، حيث يختفي النيل تدريجياً ويظهر البحر من الناحية الأخرى، وترى السفن العملاقة تتوقف في الميناء، القهاوي القديمة تفوح منها رائحة الثورة حيث وقف شعب المدينة الباسلة أمام المستعمر لحظات سجلها التاريخ للأبد، ترى ذلك بوضوح في الشوراع والتماثيل والميداين واللهجة البورسعيدي وهي تنطلق بشعارات الحماس، على الشاطئ ترى زبد البحر ونغمات السمسيمية تشدو من مكان ما، تشعل الحماسة في الصيادين، فيغدو عليهم البحر من خيراته، تختلط رائحة اليود برائحة السمك، ويطغو عليهم رائحة الطهو، يتجمع الجميع حول المائدة وتتراص الأطباق وما تحويه من أصناف الأسماك وأطعمة البحر، تتبادل الضحكات والأحاديث والحكايات، ويشهد الغروب على تلك اللحظات من الأنس والألفة كما ألفتها الأسماك وهي بعيدة عن عالم البحار!
بعد الغروب يخيم الليل، وفي طريق العودة تظهر الأضواء خافتة، ويستقبلنا النيل مرة أخرى لكنه هذه المرة مستسلماً للظلام، وكأنه يقول أنه قد آن للنور أن يختفي لحظات، وها نحن ذا نحزم الحقائب للرحيل، وقد مرت الأيام سريعاً وكأنك نسيت أن الأيام تمر والوقت ينتهي، فهذه هي الدنيا والأقدار تعبث بنا أحياناً وتلقى بنا إلى طريق السعادة مرة أخرى، فما هو إلا لقاء غريب ثم أنس وألفة ثم وداع، ولا تبقي سوى الذكريات.
عن رحلة رأس البر، ١٠ سبتمبر ٢٠٢٣